الاهرام
سياسات ترامب الدولية العشوائية
فى سجلات التاريخ السياسى، أظهر عددٌ قليل من القادة الهيمنة والسيطرة التى تُميِّز إدارة دونالد ترامب، فسياساته غير المبالية لا تفرِّق بين الحلفاء والخصوم وتنبع من ثلاث قضايا. أولا، تُميِّز سياساته «أمريكا أولا» المصالح الأمريكية وتجبر زعماء العالم على عدم الاعتماد على الولايات المتحدة. وتؤدى هذه القضية إلى السياستين الثانية والثالثة: التجارة المتبادلة والتعريفات العادلة، وما إذا كان للبلاد عجز تجارى مع الولايات المتحدة، ثم عدم تحمل الولايات المتحدة وحدها عبء الدفاع والمساعدات أيًا كانت
لكن التغيير فى سياسات الولايات المتحدة كان حادا وسريعا وضرب الجميع بعرض الحائط. أصاب هذا النهج الأسواق العالمية بالفوضى وأثار قلقًا وانتقادًا كبيرًا، ليجد الحلفاء وغير الحلفاء أنفسهم فى موقف بالغ الصعوبة لعدم استطاعتهم التكيُّف مع القرارات المستفزة
ويرى ترامب أن الولايات المتحدة قوة عظمى موّلت العالم لسنوات ولم تحصل قط على التقدير الذى تستحقه، لكنه يتجاهل أن المساعدات التى قدمتها الولايات المتحدة للدول والأصدقاء أعطتها قوة إمبريالية ونفوذا هائلا يساوى أضعاف المساعدات المادية
الرفاق هم أول من تم استفزازهم وانتهاكهم. فالدول التى وقفت فى السابق جنبًا إلى جنب مع أمريكا، فى السراء والضراء، تلقت التعريفات الجمركية، وحظر السفر، والإساءة. لذا، عندما سُئل ترامب عما إذا كانت الولايات المتحدة ستحمى حلفاءها الذين لا يدفعون حصتهم العادلة إذا هاجمتهم روسيا، كان رد ترامب: «لا. لن أحميكم، فى الواقع، سأشجعهم على القيام بكل ما يريدون. عليكم دفع فواتيركم
تعانى الولايات المتحدة عجزا تجاريا كبيرا مع بلاد كثيرة مثل الصين والمكسيك وفيتنام وأيرلندا وألمانيا، ويعتقد ترامب أن التعريفات الجمركية ترد على الممارسات التى تحد من الصادرات الأمريكية. ورغم أن موازنة العجز التجارى تهدف إلى حماية الصناعات فى الولايات المتحدة من خلال خفض العجز التجارى، فإن العواقب متعددة الأوجه، وتؤثر على نطاق واسع من المنتجين والمستهلكين وتسبب ارتفاعا فى تكاليف الإنتاج، وقد لا تنجح فى تحقيق الموازنة التى يحلم بها ترامب
وقد تعرِّض الحلفاء، مثل كندا، لضربات شديدة للغاية، الأمر الذى دفع مارك كارنى، رئيس الوزراء الكندى الحالى، إلى القول: «إن كندا لا تستطيع الاعتماد على الولايات المتحدة بعد الآن، ويتعين عليها أن تحقق الاستقلال الاقتصادى». وقال أيضًا: «سنحتاج إلى تحويل علاقاتنا التجارية إلى مكان آخر»، وهى نتيجة حتمية، حيث يقوم الحلفاء الآن بالتنويع والالتزام بالشراكات خارج الولايات المتحدة
والحرب التجارية خرجت عن نطاق السيطرة، فقد فرض ترامب رسوما جمركية جديدة واسعة النطاق على جميع السلع المستوردة من جميع دول العالم
أما الخصوم فحذوا بمعاملات مختلفة. فبينما شهدت روسيا مشاركة دبلوماسية غير مسبوقة، واجهت دول أخرى مثل إيران وطأة التوترات المتصاعدة. وقد تم تجاهل أوكرانيا ورئيسها بشكل كامل. وكان الافتقار إلى استراتيجية متسقة ومتماسكة سببا فى تشويش الجهود الدبلوماسية
وفرت الولايات المتحدة أكثر من 27 مليار دولار مع انسحابها من مجال المساعدات وتقليص مساعداتها الخارجية للدول النامية، سواء كان ذلك عن طريق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو منظمة الصحة العالمية، لكنها خسرت فعليا كونها الجهة المانحة الموقرة فى جميع أنحاء العالم، وهى ميزة حاسمة. يرسل هذا القرار إشارة واضحة إلى المجتمع الدولى مفادها أن التنمية العالمية والتعليم والصحة لم تعد تمثل أولوية بالنسبة للولايات المتحدة
وهذا من شأنه أن يدفع الدول الأخرى إلى ملء الفجوة وتغيير ميزان القوى. ومن المؤكد أن الصين والاتحاد الأوروبى سوف يستفيدان من الفراغ الناتج. ومن خلال خفض المساعدات الخارجية، أعطى ترامب الصين فرصة سهلة لاكتساب ميزة القوة الناعمة فى البلدان التى تحتاج إلى الدعم والمساعدة.وتحركت الصين بسرعة لتحل محل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية فى المساعدات التى ألغاها ترامب فى كمبوديا
ومع تراجع الولايات المتحدة عن دورها التقليدى كشريك وقوة عالمية سوف يتدخل الاتحاد الأوروبى أيضا لملء الفراغ. والعنوان الرئيسى لصحيفة وول ستريت،انسوا الشعار «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» (ميجا) «لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى» (ماجا). ويستطيع الاتحاد الأوروبى أن يغتنم هذه الفرصة لتعزيز أهميته العالمية وأن يصبح شريكا أكثر فائدة وجديرا بالثقة فى مختلف أنحاء العالم. بإمكان الاتحاد الأوروبى أن يقوم بجميع الأدوار التى اعتادت واشنطن أن تلعبها. خروج الولايات المتحدة من ساحة المساعدات ما هو إلا هدية دبلوماسية ودعائية للصين والاتحاد الأوروبى
وفى الختام، فإن الطبيعة العشوائية لسياسات ترامب تركت أثرا دائما على المجتمع الدولى. ومن خلال معاملة الأصدقاء كأعداء، تزرع إدارة ترامب بذور الخلاف. ويواصل العالم صراعه مع تداعيات عصر يتميز بالابتعاد عن الدبلوماسية والتعاون التقليديين
لمزيد من مقالات د. عزة رضوان صدقى