نسخه من هذه المقاله ظهرت في الاهرام اليومي يوم ٢٣ فبراير ٢٠١٩
الرابط: في حب القاهرة
كلما اقترب ميعاد سفرى من القاهرة لفانكوفر بكندا تداعبنى المشاعر نفسها التى تنتابنى كلما نويت السفر. رحلت عن القاهرة عن عمر يناهز العشرين ومكثت خارجها لعقود طوال أعود إليها بين حين وآخر, لكن على مر الـ 25 عاما السابقة غيّرت من حياتى وجدولى وتدريسى الجامعى جملة وتفصيلا حتى أستطيع أن أقضى جزءا كبيرا من السنة، خاصة فى الشتاء، بالقاهرة. وهاأنذا على وشك السفر مرة أخرى، أتأمل شعورى تجاه ذهابى وإيابى من القاهرة وتعلقى بها وعواطفى تجاهها عامة
من الطبيعي أن أي شخص أمضي معظم حياته خارج وطنه أن يبتعد بحكم ظروف الحياة ومشاغلها. غالبا ما ينسي أو يتناسى هذا الشخص مسقط رأسه بعد عدة عقود. لكن العكس صحيح معي، فكلما مرت السنوات أصبح هذا الرباط غير الملموس أو غير المفهوم أكثر صلابة وأكثر أهمية لي. كنت أتصور أن زياراتي للقاهرة مرتبطة بالالتزامات الأبوية وحب الأهل. هذا السبب لم يعد متوفرا الآن حيث إن معظم أفراد عائلتي المقربين قد توفاهم الله. إذن ماهي الأسباب التي تربطني هذا الارتباط الشديد بالقاهرة؟ هل هو السن؟ فكلما يتقدم بنا العمر ننظر إلى الماضي؟ هل هي ذكريات الطفولة وأصدقاء الدراسه؟ هل هي ببساطة ارتباط بمسقط رأس الإنسان ولغته وحضارته؟ ما هو هذا الشي الذي يربطني بالقاهرة ويجعل لها مكانا مميزا بداخلي وفي قلبي؟
أما مدينة فانكوفر فى كندا فتربطنى بها صلة وثيقة، فقد أقمت بها إقامة دائمة لأكثر من ثلاثين عاما، وهى تعتبر من أجمل مدن العالم وذات طبيعة خلابة: الجبال المغطاة بالأشجار الخضراء طوال السنة التى تعلوها الثلوج فى شهور الشتاء، تحاط بمياه المحيط فى مشهد ربانى ساحر. أمطارها الغزيرة تجعلها خضراء نظيفة نقية الهواء، هذا وساكنو فانكوفر يهتمون بها ويقدرونها فيبقونها جميلة وفى رونقها الذى يجذب السائحين لها من جميع أنحاء العالم
ورغم ذلك أحمل حقائبي كل سنة وأقوم برحلة الـ٢٤ ساعة عابرة المحيطات والأراضي الشاسعة حتى أمضي شهور الشتاء أين؟ في أم الدنيا. وفي طريقي إليها ينتابني شعور جيّاش وفي سفري منها ينتابني شعور وحشة غريب. فبينما الكنديون يفضلون قضاء إجازاتهم في أكواخ بعيدة عن الضوضاء والناس والحضارة، أذهب أنا إلى القاهرة التي تمتلئ بالضوضاء والناس والحضارة وأيضا الصحبة والألفة والمحبة
بغض النظر عما يوجد بالقاهرة من مشكلات ومعضلات، فالقاهرة لها سحر لا يضاهيه جمال أى مدينه أخرى. إنها المدينة التى لا تنام. البعض قد ينام مبكرا أو متأخرا والبعض الآخر قد يستيقظ مبكرا أو متأخرا، ولكن القاهرة فى حد ذاتها لا تنام. لا توجد مدينة أخرى فى العالم تكون فى ذروة نشاطها فى الـ8 أو الـ9 مساء مكتظه بالبشر يتجالسون ويتنزهون ويكملون ما لم يكملوه فى الصباح. كذلك فأسواقها وتاريخها وحضارتها وسكانها وصحوتها وحيويتها لا يضاهيها أى مكان آخر. أما الشمس المشرقة فهى موجودة دائما
وإن كنت أقدر تاريخنا العريق لكن لا يجذبنى للقاهرة الآثار أو الأسواق القديمة، وعادة لا أذهب إلى الأهرامات أو الخان إلا لوجود ضيف أجنبى يريد مشاهدة هذه الأماكن. أما الحياة الليلية والسهر فهى أيضا لا تجذبنى أبدا.. فلماذا هذا الارتباط العميق؟
أولا القاهرة بها حيوية وحياة لا توجدان فى أى مكان آخر. فى لمحة بسيطة دعنا نتجول فى أحد شوارع القاهرة التى قد تبدو للقاهريين عادية وغير ملفتة ولكنها فى حقيقة الأمر مليئة، بهذا الشيء الذى لا يتوافر فى أى مكان آخر فى العالم. شارع النزهة فى مصر الجديدة على مسافة بضع دقائق من منزلى ينبض بالحياة ويكتظ بالحركه طوال اليوم. قد تبدأ تجوالك عند محل الفول والفلافل: توقف لتشترى سندوتشات الفول والطعمية وأيضا ما طاب من الفلافل المقلية أو النيئة والفول المعبّأ أو المصفى أو المتبل. تحاور مع البائعين ستجدهم طيبين صابرين وذوى خفة دم لا توجد إلا فى القاهرة
مر بالمطحنة لشراء البن المطحون فى لحظتها ثم أصنع مفتاحا إضافيا عند صانع المفاتيح وبالمرة صلّح ساعتك وأرفِ القميص الذى مزّقته أمس. كل هذا فى متجر واحد تلو الآخر. تأمّل سمك اليوم المعروض عند السماك. اتصل فيما بعد ليصلك ما قد اخترته مطهوا ومجهزا. فى طريق عودتك اشترِ فطيرة محشوة بالسكر من الفطاطرى، فهى لابد أن تؤكل حارة. واخيرا قف عند بائعة الرمان الجالسه علي طرف الطريق واشتر الرمان مفصصا وجاهزا للاكل واو العصير. هي ايضا تبيع الفول ال "منبت وخالص". انها نزهة قصيرة قد تبدو عادية انما للبعض لا شئ يضاهيها
جميع هذه المشتريات قد تصل إلى منزلك إذا كنت شخصا لا تستمتع بالتجول. أما عن التوصيل فحدِّث ولا حرج، فلا توجد مدينة أخرى بها هذا الكم من التوصيل للمنازل. يصل منزلك الخضار والبقالة واللحوم والتحاليل الطبية والدواء والأكلات الجاهزة والملابس المكواة وأي شيء آخر تتمناه. ويحضر البعض إلى منزلك لأخذ عينات التحاليل أو قص الشعر أو لسحب السياره لتصليحها أو حتى لتوصيل الرقم القومي، الخدمة الجديدة الرائعة. أما أم صباح فتحضر الجرجير والبصل الأخضر والبقدونس إلى بابك، وإذا كنت خارج المنزل فهي لا تنزعج.. فقط تعلِّق الخضرة على مقبض الباب وتذهب
بالإضافة إلى كل هذا فإن القاهرة بها أشياء أخرى فريدة. فى فانكوفر أعيش حياة هادئة، حيث لا يدق باب منزلنا إلا نادرا ولا أرى الكثيرين وأتعامل مع القليلين، ولكنى أملأ حياتى بما أفضله وأميِّزه ولكنى أقضيه بمفردى. إذا كنت رياضية فأغمر حياتى بالرياضة الممتعة، إذا كنت كاتبة فأنغمس فى هذا المجال، وإذا كنت أحب زرع الورد والنباتات فأنا فى جنة الله على الأرض. أما فى القاهرة فأنا أبدا لا أكون وحيدة، فأنا محاطة بالأصدقاء والأقرباء وفريق من الداعمين والمساعدين يسعدون لسعادتى، ويقفون معى فى محنى، ويتجولون معى فى نزهاتى وفى زياراتى للطبيب وجولاتى للتسوق. لذلك فيجب عليّ أن أتناسى الأشياء التى قد أفعلها بمفردى، فأنا دائما وأبدا لست بمفردى. وبينما أنا مع هؤلاء أنا فى قمة السعاده أتكلم بعفوية مرتاحة البال غير مبالية بأى شيء
أعتقد أن كثيرا من أهل القاهرة سوف ينظرون إلى علاقتى بها على أنها شيء من الهلوسة.. ولكنى أوكد لهم أنه شعور نابع من الوجدان الداخلى
كايرو: سوف أشتاق إليك فحتى الشتاء المقبل
لمزيد من مقالات د. عزة رضوان صدقى