الاهرام اليومي ٢٩ يونيو ٢٠١٩
بقلم د. عزة رضوان صدقي
كان أكثر ما يؤلمني في الأزمنة السابقة هو عدم مبالاة كثير من المصريين بما يجول حولنا من تحديات، مقتنعين أنها قضاء وقدر لن تتغير ولن تتحسن. أيضا السخرية مما كان يواجه مصر، كانت تقلِّل من شأن هذه التحديات وبالتبعية تقلِّل من شأن مصر وشعبها وتجعل بعضهم يلجأ إلى المزاح والنكت وحتى الإهانة لتصنيف أدق وأحلك المصاعب. كذلك كانت اللامبالاة تعمي عن رؤية الصالح وتخلطه بالطالح. وكان كل هذا يصب في منظومة واحدة تجعلنا نبني عشوائيا ونتصرف غوغائيا ونتجاهل الحقوق ونحلِّل الأخطاء ونعتبر أنفسنا فوق القانون. "انت عارف أنا مين؟" كانت تكفل حرية التعامل مع أي قانون وتعطي القائل حقوقا ما لا نهاية لها. والخطأ كان هو الحق والمستحق "ما الكل بيعمل كده هي جت عليا أنا بس؟
والآن نسأل هل تغير المصريون؟ هل الدنيا أصبحت غير الدنيا؟ أم نحن كما نحن متفرجون لا يعملون وساخرون يرفضون ومستفيدون لا يعطون؟
بينما وقف البعض في ٢٥ يناير يطالبون بالعدالة والحرية والكرامة، سوّل للبعض الآخر الإفراج عن السجناء والهجوم على أقسام الشرطة كما سوّل لآخرين السرقة والنهب والتخريب والحرق. ثم تلت فترة زادت الطين بلة، فتره تعثرت مصر كما لم تتعثر من قبل، وأدركت الأغلبية الصامتة التي كانت قد وقفت تتأمل الأحداث عن بعد أن الهاوية الساحقة باتت وشيكة، وبدت مصر كما عرفوها قد ذهبت للحضيض.
ثم جاءت قياده تأمل لمصر الخير وتعمل بجدية من أجلها وينبعث منها احترام لمصر وللمصريين وتقف أمام الفساد وضد التطاول على القانون. تراها تهتف بحياة مصر في كل مكان وزمان حتى أمام زعماء الدول في الأمم المتحدة الذي جعل بعضهم آنذاك يهتفون هم أيضا بحياة مصر
هنا امتزج الخوف من الهاوية التي كانت مصر على حافتيها مع الأمل في غد أفضل لخلق مصريين أكثر دعامة لمصر يكرهون كارهيها ويحبون محبيها. المزح والدعابة والسخرية ستبقى جزءا لا يتجزّأ من مصر وأجوائها وأسلوب تعامل أبنائها مع الحياة اليومية، ولكن أصبح الاستهزاء بالأوضاع لا يوجد له مكان في مصر الآن، لأن مصر أصبحت فوق كل شيء، لا تُهان ولا تُذّل بل هي فوق الجميع. كان المصريون دائما وأبدا يغنون ويهتفون لمصر، ولكن اليوم يعنون ما يقولون، فالمصري اليوم "ابن مصر"، ويقول "أنا رافع راسي تملي فوق طول العمر"
يفتخر المصريون اليوم بمصرتيهم وتاريخهم وحضارتهم ويحاولون بجدية إظهار الوجه الأفضل لمصر، ويسلِّطون الأضواء على ما هو جميل في جميع المجالات. وأصبح من يتطاول على مصر يعاني بشدة، كما تنهال اللكمات على الإعلام الغربي لأنه لا يقول الحق في حق مصر. عندما وصفت يورونيوز الإرهابي هشام عشماوي على أنه "المعارض البارز"، انهالت عليها الانتقادات، حتى اضطرت الصحيفة إلى تغيير عنوانها الرئيسي عن هذا الموضوع إلى "مصر تستلم هشام عشماوي أحد أهم المطلوبين المتهمين بالإرهاب". وقالت تدوينه يورونيوز: "قمنا بتعديل العنوان الأصلي للخبر من خلال تصحيح توصيف هشام عشماوي. ناسف لهذا الخطأ الذي لا يعكس قطعا الخط التحريري ليورونيوز." وأثلج صدر المصريين
إن فخر المصريين بمحمد صلاح ورامي مالك ينبع من كونهما ينتميان إلى مصر ودائما وأبدا يؤكدون هذا الانتماء. لم يسمع المصريون بمينا مسعود، ممثل دور علاء الدين في الفيلم الأمريكي، لكن عندما هتف "تحيا مصر" أصبح له شعبيه كبيرة. فخر المصريين باختيار محمد العريان رئيسا لكلية كوينز بجامعة كامبريدج وتعيين مينوش شفيق كأول امرأة تترأس كلية لندن للاقتصاد نابع أيضا من مصريتهم، وعندما لُقِّب الدكتور مجدي يعقوب بأسطورة الطب في العالم تعالت صيحات الاعتزاز والفخر
لا يفتخر المصريون بالأفراد فقط بل بالأماكن والتراث والأحداث والتاريخ والجهد. كثرت جمل الفخر مثل "هذه ليست شواطئ نيس أو كان إنما هي مرسي علم أو سهل حشيش" و"الصورة دية مش من باريس ده التجمع الخامس" و"وسط البلد أصبح مزارا" و"تعيشي يا ضحكة مصر" و"حلوه يا بلدي"، حتى الأحياء القديمة تنال نفس الإعجاب "#حي—الجماليه، سأدعم السياحة المصرية". وسعادة المصريين من الأعمال الكبرى مثل أنفاق سيناء أو محور روض الفرج إثبات أنهم يكنِّنون لبلادهم أحر الامنيات. اما عن فخرهم بافتتاحية مسابقة كاس الامم الافريقيه فحدث ولا حرج
العطاء قد تكاثر والتبرعات قد تكاثرت أكثر، فقد أنشئت عشرات المستشفيات الكبرى في الصعيد والأقاليم الأخرى، والعطاء لا يقف عند التبرع بل يتوسع ليشمل أعمال الخير وتكافل المحتاج. والأهم أن الفساد الذي كان "على عينك يا تاجر", وإن كان لم نتغلب عليه نهائيا، فتضاءل خوفا من العواقب. حتى الوزير، ليس المستقيل أم المركون، إنما الوزير في أوج هيبته ورؤساء الإدارات والمحليات يطولهم الطائل إذا ثبتت إدانتهم
كانت هذه المشاعر الفياضة قادمة لا محالة، إنما احتاجت اجتماع الاثنين معا: الخوف على مصر والأمل في الغد. فهل تغير المصريون؟ بالطبع. وهل نطمع في المزيد؟ بالتأكيد، ولكن نحن بدون شك على الطريق الصحيح.
"تحيا مصر"