الاهرام اليومي ٢٧ يونيو ٢٠٢٠
عندما لفظ الأمريكي الأسود جورج فلويد أنفاسه الأخيرة تحت وطأة قدمي الشرطي، كانت بمثابة القشة الأخيرة لعقود من الذل. لقد توالت أحداث عنف الشرطة ضد السود سنوات طوالا، لكن الهجوم الوحشي على فلويد، وأيضا وفاة ريتشارد بروكس بعد ٣ أسابيع على يد الشرطة كانت وراء صيحات شجب دوت ضد العنصرية والاضطهاد حول العالم ودامت حتى كتابة هذه السطور
واليوم تجتاح الولايات المتحدة الأمريكية دعوة مفعمة بالاستياء الذي يكنِّه الكثيرون للشرطة تطالب المسئولين بعدم تمويل الشرطة. يريد من بادر بهذه الدعوة، بدلا من تمويل الشرطة، استثمار المبالغ الطائلة التي توجه إلى الشرطة والسجون والمحاكم إلى برامج اجتماعية تمنع الجرائم من الحدوث، في المقام الأول: التعليم والصحة والإسكان وبرامج الوقاية من الإدمان والعنف. بطريقة استباقية، يتم علاج السبب بدلاً من رد الفعل. من خلال إسكان المشرّدين ومساعدة المدمنين الذين يعانون من مشاكل نفسية على التعافي وإيجاد وسائل لاستيعاب الأقليات العرقية وحل قضايا أخرى كثيرة يأملون تلاشي الإجرام. وتتراوح المبادرات بين تخفيض الميزانية إلى التخلص من قوة الشرطة تمامًا
قد ينظر البعض إلى هذه الدعاوى بإيجابية، بينما قد يراها الآخرون غير منطقية وغير قابلة للتطبيق. إنها دعوة محيرة بالتأكيد لأن تنفيذها، بشكل عملي، أمر صعب للغاية ويتطلب إعادة التفكير في أساسيات تعودنا عليها منذ قرون مضت حيث دائما وأبدا كانت هناك في جميع بقاع الأرض قوة لحماية البشر. المثير للدهشة هو تقبُّل ودعم مسئولين في بعض المدن الأمريكية - مثل فيلادلفيا وبالتيمور وواشنطن ونيويورك ومينيابوليس - الدعوه إلى تقليل أو عدم تمويل الشرطة في ولاياتهم. طالب أحد أعضاء مجلس مدينة نيويورك بتخفيض مليار دولار من إدارة شرطة نيويورك وتوجيه تلك الأموال "نحو المجتمعات الأكثر تأثراً بعنف الشرطة". يريد عمدة لوس أنجليس أن يقطع ما يصل إلى 150 مليون دولار من الشرطة. وفي مينيابوليس حيث بدأت الاحتجاجات بادر مجلس المدينة بفكرة تفكيك الشرطة تمامًا واستبدالها بنموذج جديد للسلامة العامة. حتى في تورنتو، كندا، قدم أعضاء مجلس المدينة اقتراحًا لإلغاء نسبة 10 بالمائة من ميزانية الشرطة
لا يمكننا معرفة ما إذا كانت هذه المبادرات تهدف إلى تبديد الغضب حول وفاة فلويد والآخرين، أم أنها جهود جادة من قبل المشرِّعين لتحسين الوضع. هل هذه التغييرات يمكن تنفيذها بالفعل، أم سوف تترك المواطنين في خطر وتمهِّد الطريق أمام المجرمين لارتكاب جرائم أشد عنفا؟ فيما يتعلق بزيادة العنف، وفقًا لدراسة أُجريت في جامعة ولاية لويزيانا، قد يؤدي تقليل تواجد الشرطة إلى عدد أقل من الجرائم. عندما قررت شرطة نيويورك التباطؤ في العمل ولم تتواجد عن كثب بعدما أطلق متطرف مناهض للشرطة النار على ضابطين في عام 2014, أثبتت الدراسة أن غياب الشرطة نفسه أدى إلى انخفاض في الجريمة وأن أسلوب الشرطة العدواني الذي ينتهك حقوق البعض، يحرِّض على أعمال إجرامية أشد
قد نتفق على أن إصلاح الشرطة بالغ الأهمية، ولكن إلى أي مدى؟ أحد التغييرات التي قد تُحسِّن النظام دون المبالغة في تغييره هو إشراك المواطنين من كل ولاية في إدارة الموازنة المالية. هذه الميزانية التشاركية التي يطلق عليها اسم "ميزانية الشعب", يشارك المواطنون المهمشون والمحتجون في تخصيص الأولويات وأين ينفق التمويل. الموازنة التشاركية هذه موجودة بالفعل في العديد من مدن العالم. قد تبدأ النسبة المئوية المخصصة للميزانية التشاركية صغيرة وتصبح أكبر بمرور الوقت بمجرد إثبات نجاحها
وتتمثل مشكلة أخرى في أنه، حتى الآن، معظم الإصلاحات لأي قوة شرطة بالولايات المتحدة وسّعت سلطة الشرطة بدلاً من تقييدها، وكان يجب أن يشمل إصلاح الشرطة التدريب للحد من الوحشية مثل عدم تقييد الأشخاص عن طريق الخنق والطريقة التي تتعامل بها الشرطة مع المواطنين السود بافتراض أن جميعهم مذنبون
منظمة العفو الدولية تقول إن العديد من إدارات الشرطة الأمريكية تتدرب مع إسرائيل، التي تعتبر أكبر دولة تنتهك حقوق الإنسان. بينما تواصل إسرائيل استغلال القوة المفرطة ضد المتظاهرين تُدرب أفراد الشرطة الأمريكية على هذا النحو، وهذا يلقي الضوء على الكثير من العنف الذي تستخدمه قوات الشرطة في أنحاء الولايات المتحدة. وفقاً لمنظمة العفو الدولية، يسافر المئات من مطبقي القانون في الولايات المتحدة إلى إسرائيل للتدريب بمشاهدة مظاهرات حية ووسائل كبح جماح المتظاهرين بالقمع الوحشي. آلاف آخرون يتلقون التدريب من الشرطة الإسرائيلية في الولايات المتحدة ويتبادلون التكتيكات والخبرات. إذا تم إيقاف قوات الشرطة من التدريب مع إسرائيل، كما فعل مجلس دورهام في كارولاينا الشمالية، قد يحد من العنف المفرط الذي تستغله الشرطة
لا يمكن الاستخفاف بمبدأ عدم تمويل الشرطة أو تطبيق هذه الدعوة بدون دراسة متأنية. على أي حال، فإن جلب هذه المناقشة إلى مسمع الجميع يسلِّط الضوء على مدى خطورة الحاجة إلى إصلاح جذري للشرطة في الولايات المتحدة ويستوجب مراجعة جادة لكيفية قيام قوات الشرطة بعملها