الاهرام ١٧ ابريل ٢٠٢١
بقلم عزة رضوان صدقي
بعد أسبوع من الكوارث التي باتت كما لو أنها لن تنتهي، وما قد بدا للبعض وكأن لعنة الفراعنة قد حلت بذروتها، تبع ذلك أيام جلل بُذل فيها مجهود مميز وكُلِّل بنجاح وانتصار عوَّض المصريين عن تحمّلهم وصبرهم على ما مروا به
لمدة ستة أيام طوال حلّقت أزمة عالمية فوق الوجدان المصري عندما جنحت سفينة الحاويات إيفر جيفن في قناة السويس. شكك المضاربون في قدرة مصر على إعادة تعويم السفينة وتوقعوا مدة زمنية طويلة الأمد قبل أن تُعيد قناة السويس فتح مياهها للسفن، وتوقعوا أيضا تداعيات اقتصادية مثل نقص الوقود وشُح الغذاء وارتفاع أسعار الشحن واضطراب الاقتصاد العالمي
تأتي الأزمات في ثلاث. سرعان ما أعقب جنوح السفينة اصطدام قطارين في سوهاج مما أسفر عن مقتل أكثر من ١٩ شخصًا وإصابة مئات آخرين. ثم جاء انهيار المبنى في مصر الجديدة ليقتل ١٨ روحًا بريئة حتى يكمل مآسى المصريين الذين عصر قلوبهم الأسى. حتى أن البعض سألوا أنفسهم عما إذا كانت لعنة الفراعنة، "الموت سيأتي بأجنحة سريعة لأولئك الذين يزعجون سلام الملك"، المحفورة على قبر الملك توت عنخ آمون قد أصابت مصر. وتساءلوا عن مدى صحة نقل المومياوات الملكية من مثواها الحالي بالمتحف المصري بميدان التحرير إلى المتحف القومى للحضارة بمصر القديمة
وكما كانت الأحداث السابقة محل انزعاج الإعلام العالمي، تلا ذلك أحداث كانت محل اهتمام وأعين وكالات الأنباء العالمية أيضا، لكن هذه المرة بإعجاب بالغ. هذه الأحداث كفأت المصريين على صبرهم وتحملهم مصائب شتى وجعلتهم مبهجين وفخورين بمصرتيهم وكرامتهم. أولا تم تعويم الحاوية الضخمة التي بدت متجذرة في مكانها بعد ستة أيام من الجهد المضنى على مدار الساعة استخدمت فيها الجرافات وزوارق القطر والكراكات وسواعد الرجال الأشداء حتى زُحزحت من مكانها. تحركت السفينة ببطء عن ضفة القناة، وهلّل عمال هيئة قناة السويس ابتهاجا وفخرا وأطلقوا أبواق سفنهم فرحا بعد أن ضربوا أروع مثل في المهارة، وفي فترة وجيزة عبرت كل السفن العالقة قناة السويس متوجهة إلى غاياتها. في تلك اللحظة تلاشت الأزمة الاقتصادية العالمية وتنفس المصريون الصعداء
أن مصر ستسعى للحصول على مليار دولار كتعويض عن الإنفاق والخسائر المرتبطة بتكلفة المعدات والعمالة المتراكمة أثناء جهود التجريف والإنقاذ وأي أضرار لحقت بضفاف قناة السويس
ثم جاء الحدث الثاني الذي يعتبر الأوحد فى نوعه. شهدت شوارع القاهرة يوم ٣ أبريل ٢٠٢١ موكبًا مهيبًا غير مسبوق: الموكب الذهبي الذي نقل مومياوات ١٨ ملكًا و٤ ملكات من المتحف المصري بميدان التحرير إلى المتحف القومي للحضارة المصرية في الفسطاط بالقاهرة القديمة على بعد ٥ كيلومترات. في كبسولات مملوءة بالنيتروجين لضمان حمايتهم وفي عربات مصممة للثبات على الارض وعدم الاهتزاز وبالترتيب الزمني لحقبهم التاريخية توجهت مومياوات الملوك والملكات إلى مثواهم الأخير
ربما لم يحدث حدث بنفس الهيبة أو الحجم في مصر على الإطلاق، ناهيك عن العالم بأسره. لقد عاش كل هؤلاء الملوك والملكات حياة ثرية مليئة بازدهار بالكاد تتخيله معايير اليوم، وبعضهم قاتل وقُتِل من أجل مصر، لذلك كان انتقالهم إلي مقرهم الجديد لابد أن يتلاءم مع مجدهم وعظمتهم الملكية، وبالفعل كان الأمر كذلك
وقف المتحفان في مهابة وفخر وتم تجديد الطريق إلى المتحف القومي للحضارة المصرية. أما ميدان التحرير فبدا في أوجه كماله، فقد زُيّن بمسلة الملك رمسيس الثاني وأربعة كباش أحضروا من معبد الكرنك وأضيء ملازمة لوصول الملوك والملكات، ثم استُقبلت عربات الملوك والملكات بالتألق والأضواء والأطفال والنغم. في تلك اللحظة أصبح ميدان التحرير في الإجلال التي كان ينبغي أن يكون فيه دائما وأبدا. استغرقت رحلة المومياوات ٤٥ دقيقة عبر القاهرة وبالقرب من ضفاف النيل، بعدها تم استقبالهم بـ٢١ طلقة نارية والرئيس المصري عبد الفتاح السيسى الذي كان في انتظارهم على أبواب المتحف
ربما مرت شهور أو حتى سنوات من العمل الجاد لتنظيم هذا الحدث الذي صُمِّم بدقة شديدة وغُلِّف بالتفاصيل المذهلة ليظهر بهذا المظهر الرائع. ففي أثناء توجه الموكب بالمومياوات إلى مقرهم الجديد تفاني فنانون وموسيقيون ومؤدون ومصممون ومئات العاملين في التصوير والإضاءة والأزياء والرسم والموسيقى والرقص والغناء في أدائهم مفجرين طاقة وإبداعا غير مسبوقين. إن المشهد كان دليلا على عظمة شعب مصر وكانت النية واضحة: الخروج بعرض يواكب عظمة وملكية الملوك والملكات، وقد تحقق ذلك بالفعل
أبهر المصريون العالم في كلتا الحالتين: تعويم السفينة وموكب المومياوات، لذا يجب أن يفخروا بأنفسهم ونفخر نحن بهم. لكن الأمر الأكثر أهمية والمسبب لفخر أعظم أن هذين الحدثين المبهرين تما بأيادٍ مصرية أصيلة كما أنهم أثبتوا للمصريين أنفسهم أن بإمكانهم إنجاز الكثير إذا أرادوا. آن الأوان أن يرفع المصريون شأنهم ويخلِّدون كفاءتهم بهذا الشكل دائما وأبدا فهم الآن يدركون قدراتهم ونتائج عملهم كفريق وحصيلة الانضباط والمثابرة
مبروك لمصر أولادها
Comments
You can follow this conversation by subscribing to the comment feed for this post.