الاهرام
الديمقراطية الزائفة
..ولو أن الديمقراطية لا تقدر بثمن لكنها فى عهدنا هذا قد تُشترى. اشتُقت كلمة الديمقراطية من «الشعب» و«الحكم» فى اليونانية. بمعنى آخر: «حكم الشعب»، وتتضمن مجموعة من القيم، وأهمها القدرة على اختيار المشرِّعين الذين يمثلون الناخب بحرية، واتخاذ القرارات اعتمادًا على تفضيلاته من خلال التصويت
دعونا نركز على الأمة التى أعلنت نفسها زعيمة العالم فى الديمقراطية. هل المواطنون الأمريكيون أحرار فى اختيار مرشحيهم المفضلين، أم أنهم مجبرون على اختيار المرشح الأكثر دعاية؟ هل الناخبون يختارون المرشحين السياسيين بحرية، أم أن قراراتهم مقيدة بالتمويل غير المحدود الذى يقدمه الرعاة للمرشحين؟
إن النشاط السياسى للداعمين يفسد العملية الديمقراطية، ويهدف إلى التأثير على سياسة الحكومة مع تجاهل حقوق الناخبين. فى جوهر هذا التصرف إساءة للديمقراطية. قبل أى سباق، يتعين على المرشحين جمع تمويل هائل لدعم حملاتهم، لأنه من شبه المؤكد أن المرشح الذى ينفق أكثر من غيره سيفوز فى نهاية المطاف، حيث يستخدم المانحون الأثرياء سلطتهم للتلاعب بوسائل الإعلام من خلال الإعلانات التى تعمل على تغيير تصورات الناخبين. وفى المجمل، تم جمع ما يزيد على 5 مليارات دولار للترويج لمرشحى الحملة الرئاسية لعام 2024
وبمجرد فوز المرشح المدعوم، فإنه يظل مديناً للمانحين الذين موّلوا انتخاباته، ويتبع ذلك موالاة المنتخب ليس للأشخاص الذين صوّتوا له، بل للممولين الذين ضمنوا انتخابه
وأخيرًا حدثت ضجة فى أثناء انتخابات المحكمة العليا فى ولاية ويسكنسن فى الولايات المتحدة عندما تم إنفاق نحو 70 مليون دولار على الدعاية للمرشح الجمهورى. إيلون ماسك، مالك شركة تسلا ومنصة التواصل إكس والعديد من الشركات الأخرى، أنفق 21 مليون دولار على السباق، وفى أثناء الترويج للمرشح لمقعد المحكمة العليا، سلّم ماسك شيكات بقيمة مليون دولار إلى اثنين من الناخبين فى ويسكنسن الذين تعهدوا بانتخاب المرشح الجمهورى
إن هذا السباق السياسى كان خاضعا لهيمنة التأثيرات الحزبية والمساهمات المالية الكبيرة. علاوة على ذلك، فإن الديمقراطية تصبح على المحك عندما يدعم أعضاء المحكمة العليا الأمريكية تحالفاتهم، الذين من المفترض أن يكونوا غير حزبيين وغير منحازين لأى من الحزبين. إن القضاة الديمقراطيين يؤيدون قرارات الديمقراطيين، وإن القضاة المحافظين يؤيدون قرارات الجمهوريين، وفقاً لهذه التفضيلات غير الحيادية تتلاشى الديمقراطية وينتهى استقلال القضاء
إن المانحين الأثرياء مستعدون دائمًا للتمتع بقدر مفرط من النفوذ على الحكومة، وفى ظل إدارة ترامب الثانية، أصبح هذا الأمر واضحًا تمامًا. لكى نوضح مدى نفوذ النخبة الثرية خلال السباق الرئاسى لعام 2024، فإن 48% (481 مليون دولار) من التبرعات لحملة ترامب جاءت من عشرة مليارديرات فقط. وخلال تنصيب الرئيس ترامب، كانت المقاعد المخصصة عادة لأفراد الأسرة والرؤساء السابقين، يشغلها أغنى الرجال فى العالم وهذا يبرز الدور المباشر الذى يُرجّح أن يلعبه أغنى أغنياء العالم فى الإدارة الجديدة. فى خطابه الختامى، حذّر بايدن من أن الولايات المتحدة تتحول إلى سيطرة أقلية من مليارديرات التكنولوجيا الذين سيتمتعون بمستويات خطيرة من السلطة والنفوذ
تبرع إيلون ماسك بنحو 300 مليون دولار للحملة الرئاسية لدونالد ترامب، لكن استثماراته ضمنت له مكاسب مالية ونفوذًا مرموقًا. أعلن ترامب بمجرد انتخابه تعيين ماسك مستشارا أول له، ورئيسا لدائرة كفاءة الحكومة، وهى دائرة تابعة للبيت الأبيض مكلفة بخفض الإنفاق الفيدرالى. وكما وصفها ترامب الآن أصبح بإمكان ماسك «تفكيك الرأسمالية الحكومية، وتقليص اللوائح الزائدة، وخفض النفقات الباهظة، وإعادة هيكلة الوكالات الفيدرالية». ومن المؤكد أن هذا الدور من شأنه أن يمنح ماسك نفوذا على السياسات التى قد تخدمه شخصيا. واليوم يجنى ماسك ثمار إسهاماته، ويعزز مصالحه الشخصية
ومن الأمثلة الأخرى الراحل شيلدون أديلسون، الملياردير الإسرائيلى المتشدد وأكبر مانح لترامب فى عام 2016 (25 مليون دولار) و2020 (45 مليون دولار)، وفى عام 2024 منحت زوجته ميريام أديلسون حملة ترامب 100 مليون دولار. كان أديلسون مانحًا كبيرًا للمرشحين الجمهوريين، والأهم أنه كان قوة تلاعب فى العديد من القرارات التى يتخذها الجمهوريون فى الكونجرس. اليوم المشرعون الجمهوريون مدينون لعائلة أديلسون. وعندما حان وقت السداد، نقل ترامب السفارة الأمريكية إلى القدس، لإرضاء شيلدون أديلسون، وفى عام 2018، حصلت ميريام أديلسون على وسام الحرية. لا شك فى أن ترامب سيظل ملتزما بواجباته وممتنا للعائلة المؤيدة لإسرائيل التى تؤثر على حكم ترامب وأحكامه
إن هذين مجرد مثالين على تأثير المال على الحكومة الأمريكية. إن الحكومة التى تسيطر على سلطتها مجموعة صغيرة من الناخبين الأثرياء سوف تفضل مجموعة على أخرى، وتهمش مجموعات معينة، وتحظر تكافؤ الفرص. وبدون وجود معايير أخلاقية تضمن تكافؤ الفرص تُغفل الديمقراطية
لمزيد من مقالات د. عزة رضوان صدقى
Comments